قراءة فى قصة "عشرة قروش" للروائى محمد عامر فاضل

    محمد عامر فاضل روائى وقصاص مصرى ،  ولد 24 سبتمبرعام 1970 ، له خمسة أعمال أدبية :  "الحضور الفذ - نصوص قصصية" 1990 ، "للذكرى الخالدة - نص روائي" 1996 ،  "معمدانية المحبة - قصص" 1997 ، "جبروت - نص روائي" 2000 ، "كتاب الشهادة - نصوص روائية"  2008 . 
 سأطرح هنا قراءة في قصة من قصصه وهى قصة "عشرة قروش" . وقد اخترت هذا العمل ؛لأننى لا  تستهوينى كثيرًا النصوص الواقعية ؛ وذلك لأننى من أولئك الأشخاص الذين يتورطون مع أبطال تلك النصوص ، ولكن هذا النص أدهشنى بواقعيته التى لا تجرح ، ولا تورط ، بل تدفع نحو تأمل فلسفى هادئ .














القصة

عشرة قروش
1
فتحت باب الشقة ، حيث لا أعلم أهى فى منزل ، أم أنها فى خلاء ، وبقدر عدم معرفتى ، لا أهتم بحقيقة موضعها .
بلاط الصالة المظلمة بارد ، ويوقف الداخل ليسمع الصمت : كان صمتا شتويا ، وحيدا.
حجرات الشقة مفتوحة على أسرة ودواليب معدنية ، لا تعنى أنها أساس . أغطية لم ترتب ، بعضها بجوار الحائط ، والآخر تدلى على حافة السرير . الجدران باردة صامتة ، كأنها تنفتح - من الجهات الأربع - على نور أليف ، هادئ ، محفز .
كان الفتى نائما ، رأسه تحت الوسادة . جلست على الكرسى أمام المكتب ، وما كدت أخلع الحذاء حتى استيقظ فرحان الأسارير .
يبدو أن أخاه لم يعد من الخارج . أشار بأصبعه لأعلى وهو يقول : إن أخى لم يعد ، ويبدو أنه سيتأخر .
قلت : سوف يأتى بالسلامة ، لا تقلق .
2
أبان وجهه الأبيض عن لون عينيه وهو يقول : ليس معى نقود .
ضحكت ، وقلت : لا تهتم ، سوف نتصرف .
فقطب جبينه الذى أبان بعض خصلاته المتهدلة ، قال : أنا لم أتعش .
3
قلت : ولماذا انتظرت كل هذا الانتظار !
قال : لما تأخر أخى ، قلت إنك ستأتى حتما قبله.
فقلت : معى خمسة وثلاثون قرشا ، خذ ربع جنيه ، هات خمسة أرغفة بعشرة قروش ، وبالباقى طعمية .
فقفز إلى حافة السرير ، نظر فى عينى ، وأشار إلى نفسه ، قال : أنا أشترى خبزا بعشرة قروش !
فقلت : هذا ما نحتاحه ، ولو أن معى جنيها لاشترينا به كله .
4
أدخل قدميه فى شبشب أخيه الإسفنجى ، وأشار إلى من تحت إلى أعلى : اذهب أنت ، واشتر الخبز ، وهات مخللا مع الطعمية .
5
ضحكت ،
لبست الحذاء بدون جورب ، فقد رميته منذ قليل ، قلت له : لست جائعا ، وسوف أذهب لقضاء بعض المصالح ، أريد أن أدخل الحمام ، وأغير ملابسى ، وسأذهب لحالى .
نظر فى عينى مرة أخرى ، لكن صوته كان أهدأ قليلا ، قال : أنا لم أتعش ، والساعة الآن ...
ورفع ذراعه ليرى الساعة .
ابتسمت ، ثم ضحكت وانا أهم بالخروج من الحجرة : طيب ، هل تجىء معى لنشترى الأطعمة ؟
فوقف بجانبى وهو يقول محاولا إقناعى هذه المرة : لكن أنا لن أقف أمام المخبز ، ولن أقول للرجل أعطنى خبزا بعشرة قروش .
فقلت : لا تقف أمام أحد .
وأنا أفتح باب الشقة ، اقترب منى ، قال ، وقد هدأت نفسه : والمخلل !
كانت عيناى ثابتتين فى سقف الشقة ، وأنا أعيد حساباتى ، ثم نظرت إليه مبتسما ، قلت : سوف نشترى مخللا لو وجدنا .


الدراسة : 

تبدأ القصة بأن يعود الراوى إلى الشقة حيث يسكن هو وآخرون  ؛ ليبدل ملابسه ، ويذهب لقضاء مصالحه . ما إن دخل الراوى حتى وجد فتى نائمًا ، الذى سرعان ما أستيقظ فرحان الأسارير  ؛ فلقد انتظر أخاه طويلًا ، وقد اشتد عليه الجوع وليس معه نقود . أخبر  الراوى  بأنه لم يتعش ، وليس لديه نقود . عرض الراوى عليه خمسةً وعشرين قرشًا ؛ ليشترى لهما طعامًا :  بعشرة  قروش خبزًا وبالباقى طعمية . بكل غطرسة يرفض الفتى الجائع أن يذهب . ويطلب من الراوى فى لهجة آمره أن يذهب هو : " أشار إلى من تحت إلى أعلى : اذهب أنت ، واشتر الخبز ، وهات مخللا مع الطعمية" . أجابه الراوى " لست جائعًا ، وسوف أذهب لقضاء بعض المصالح " . فى النهاية يحاول الفتى إقناع الراوى بأن يشترى هو  الخبز ، وبحال من إطمئن على بلوغ ما يريد أكد على الراوى بالا ينسى المخلل . 

التحليل :

يعالج الكاتب مجموعة من المتناقضات :

1.      حالة التناقض التى يعيشها الجائع المنتظر الذى يأبى أن يشترى ما يسد جوعه و يشعر بالتعالى  على حاجة جسده . حالة تناقض بين ما يشعر به وما هو عليه ( يشعر بالجوع – ينتظر أخاه) . لا ندرى ماذا يدور بخاطر صاحبنا حتى يخلف لنا هذا التناقض المزعج ، ولا ندرى ما مصدره ، مع أنه يطفو على سطح ذاكرتنا صوت رجل إقطاعى قديم يأتينا من أعمال سينمائية قديمة .

2.      بدا نوع من التناقض فى علاقة الأبطال بالمكان ؛ فهناك من يسكنه عابرًا ، ومن يحل فيه ضيفًا حبيسًا: تربط الراوى بالمكان علاقة عابر سبيل ، يمر عليه ولا يتوقف عنده كثيرًا . أما الفتى فيمكث فى المكان حبيس الانتظار  وفريسة للجوع . بدا المكان  لأول وهلة موحشًا ومقبضًا كمقبرة (بلاط بارد- صمت شتوى – وحيد ) ، جاء ليوشى بحالة التناقض التى يعالجها القاص ( الشقة .. لا أعلم أهى فى منزل ، أم أنها فى خلاء ) (أسرة ودواليب معدنية ، لا تعنى أنها أساس) ( الجدران باردة صامتة ، كأنها تنفتح _من الجهات الأربع – على نور محفز هادئ ) . مكان لا يسكنه سوى الصمت والبرودة " بلاط الصالة المظلمة بارد ، ويوقف الداخل ليسمع الصمت : كان صمتا شتويا ، وحيدا"  مكان صامت مع أن للجوع صوتًا صارخًا . 

     تقفز الأسئلة إلى ذهن القارئ سريعًا : كيف لا يعلم البطل أين تكون الشقة حيث يسكن!  ألهذا القدر لا يتفاعل البطل مع محيط شقته أم أن ذلك المحيط هو من عدم الحياة! و لماذا الأسرة والدواليب لا تعنى أساسًا! هل لأنه أساس مكسر أو متهرئ!  وكيف تنفتح جدران المكان من الجهات الأربع! هل لأن الجيران يتلصصون والبطل لا يشعر بالخصوصية ، أم انها بكل بساطة بها فتحات يتسرب منها النور "هادئ محفز" ، وكأن الراوى أتى فى ظل هذا الجو المقبض ليمنح المكان فرصة للحياة ! . 

3.      الحدث قصير جدًا ذو بعد نفسى مركب ويكاد يكون معقدًا . التناقض هو ما صنع المفارقة فى الحدث: الفتى جائع .. انتظر طويلًا بهذه الحالة ، وما إن توفرت النقود لشراء الطعام ، حتى رفض فى غطرسة أن يذهب إلى المخبز ويطلب بعشرة قروش خبزًا . من الواضح أن الفتى لم يكن ينتظر من يخلصه من أسر جوعه بل كان ينتظر من يطعمه فى محبسه . فى الحقيقة إنه لم يكن فى حالة انتظار موحش ، أو نائمًا فى السرير فى حالة هروب مزعج ، أو حتى أسيرًا لجوعه ؛ بل كان حبيسًا لأفكاره وهلاوسه ، لا يفعل شيئًا سوى الانتظار  .

4.  وفق الكاتب فى اختيار عنوان قصته ، الذى جاء متناغمًا مع طريقة السرد ، التى تعتمد على المتناقضات ؛ فالعشرة قروش هى الحل لأزمة الفتى مع الجوع  وهى أيضًا ما  صنعت الأزمة  .  فالفتى يرفض – رغم جوعه - أن يقف أمام المخبز ويقول للرجل أعطنى بعشرة قروش خبزًا . 

5. رصدت القصة تركيبة من المشاعر والأفكار المتناقضة ، عالجتها برهافة حس ؛ لتسلم قارئها لحالة من التأمل الشفاف دون توريطه فى تلك الحالات بالتوحد مع أصحابها .




تعليقات

  1. أشكرك جدا جدا دكتورة هند .
    قراءة جادة ورائعة .. وقادرة على التعامل برهاقة مع مفردات القصة تعاملا استطاع أن يفك رموزها ويقربها للقراء .

    ردحذف
    الردود
    1. الحقيقة يا أستاذ محمد أن شغلك مميز وغنى وهو السهل الممتنع و يحمل فى داخله قراءات متعددة .

      حذف
  2. أشكرك جدا جدا دكتورة هند .
    قراءة جادة ورائعة .. وقادرة على التعامل برهاقة مع مفردات القصة تعاملا استطاع أن يفك رموزها ويقربها للقراء .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

«دون كيخوته» دكتور عبد الرحمن بدوي

قراءة فى قصة "عمل" للكاتب محمد عامر فاضل