قراءة فى قصة "عمل" للكاتب محمد عامر فاضل
محمد عامر فاضل
قصاص مصرى ينتمى لجيل التسعينيات ، صاحب أسلوب مميز في الكتابة ، يتطلب من قرّائه معرفة عميقة باللغة وحساسية تجاهها . سأطرح هنا قراءة في قصة من قصصه وهى قصة "عمل" ، وهى من أحدث أعماله ، وتتميز بقصرها وكثافة الحدث الذي فرض استخدامًا دقيقًا
للغة ولطريقة السرد ؛ لتقدم مجموعة من القيم التي تشكل في تضافرها الحياة في شكلها
الإيجابي . وقد اخترت هذا العمل لسببين أولهما : عمق وأصالة الموضوع المطروح .
وثانيهما : دقة استخدامه لطرق السرد . أتاح تعدد السمات المميزة للقصة تعددًا فى طرائق النظر النقدية للنص ؛ فجاءت هذه القراءة من منظورين : دلالى يعرض لموضوع تعاطى
الحياة ، وبنيوى يعرض للقيم التى تبنى عليها القصة.
النص :
(عمل)
كان أصيل .
انتهيت من عمل شاق ، دام مدة طويلة . السماء صافية ، الجو رائق ، نسيم لطيف حثنى على القيام والخروج والذهاب إلى حيث أجد أصدقاء كثيرين . العمل الذى أنهيته جعلنى مشتاقا للأصدقاء .
أمام محطة المترو تتراص الميكروباصات القديمة البيضاء ، يبدو أن السائقين ذهبوا لشئونهم ، وتركوا سياراتهم . بعضهم يجلس مع زميل فى سيارته ، وسائق يقف أمام سيارته ، ينظر إليها ، ثم يدور حولها ، وهو ينظر إليها .
المترو ذهب إلى البعيد منسحبا من المكان ، ترك المحطة واقفة كسيدة رءوم ، تتلقى أبناءها ، وتودعهم ، تودعهم وتتلقاهم ، فى قبلة لقاء لا ينقطع .
دخلت محل العصير ، كان فارغا إلا من العامل والفاكهة المعلقة ، والأكواب المغسولة على المنصة المبلولة اللامعة . وقفت فى انتظار أن يأتى بعصير القصب .
جاء شاب طويل ضخم ، عليه الثياب الكاملة ، وجهه أحمر ، وجه أرستقراطى . أومأ يحيينى ، أومأت أحييه ، وقف بجوارى ينتظر .
جاء شاب أسمر قصير نحيل مع فتاة فى مثل حجمه ، فقيران ، يحبان بعضهما ، كل منهما يحب الآخر ، فهمت ذلك ، رغم أننى لست ذكيا بما يكفى لفهم هذه الأمور .
أتى العامل بالقصب ، ملأ الكوب الأول ، رفعته وأعطيته للأرستقراطى ، أخذ الكوب فى أناقة ، وقدمه للفتى ، الذى يقف صامتا إلى جوار فتاته السمراء ، فلما رأى اليد ممدودة إليه بالكوب قال بسرعة : لا والله ، اتفضل أنت ، مش ممكن .
فقال له آمرا ودودا : خد .
أخذ الفتى الكوب وقد بدا عليه الحرج ، ارتبك ، أخذ الكوب وأعطاه للفتاة التى أخذته فى صمت وهى تبتسم ابتسامة خفيفة . كنت قد رفعت الكوب الثانى ، فأخذه الباشا وقدمه للمحب الأسمر ، فأخذه ، كنت رفعت الكوب الثالث ، أعطيته لصديقى الذى يقف إلى جوارى، أخذه وهو يبتسم .
وكان أن قال : شكرا .
1- تعاطى
الحياة
تأخذنا القصة إلى
منطقة مرهقة فى حياتنا اليومية ، وهى الشعور الذي يملؤنا بعد وقت طويل من العمل
الشاق ، حيث نفكر فقط في الراحة . يبدأ البطل بأن يقول إنه قضى وقتًا طويلًا فى عمل
شاق، جعله يشتاق للأصدقاء . ثم يبدأ السرد الحركة فى اتجاهين مختلفين : الأول بدأ بوصف حركة البطل الذي قرر أن يقضى وقتًا لطيفًا بعد
عمل شاق خلق فى نفسه شوقًا للأصدقاء ، والاتجاه الثانى سرد حالة من التأمل
يعيشها البطل وحده .
يسير البطل حاملًا
شوقه ، الذي زاد من حساسيته ؛ فراح يتأمل حركة قطارات المترو في إيابها وذهابها
وكأنها أناس مثله فى حالة عمل دؤوب ، تتعاطى الحب مع المحطة التي تتلقاها كما تتلقى
الأم أطفالها . لم يشأ الكاتب هنا أن يذكر أنها أيضًا تلوح لهم في وداع تلو وداع ؛ لإن
نفسه المشرقة بالحب رأت من نور اللقاء ما محا به ظلمة الوداع . لم تحرم
الميكروباصات خارج محطة المترو من رهافة حس البطل ، الذي رأى أنها "تتراص"
في حال منتظمة ؛ لتقوم هى الأخرى بدورها كأداة لتيسير الحياة . وصل البطل محل
عصير فيصفه بأنه فارغ إلا من العامل والفاكهة والأكواب . ماذا يحتاج طالب محل عصير
سوى العصير ومن يبيعه له! وخاصةً عندما يكون الطالب إنسانًا قد أرهقه عمل شاق ؛ فلا يطلب سوى الهدوء والراحة بعيدًا عن ثرثرات الناس . وأي
فراغ يعنيه البطل ، أم هى حالة الاشتياق المسيطرة عليه ، والتى لم تكن للأصدقاء
فقط بل كانت للناس بشكل عام!
ورغم ان البطل رأى
أن في المحل فراغًا إلا أن الحياة تسير في المكان بشكل طبيعي ، وذلك بدا في رصده للـ"
الأكواب المغسولة على المنصة المبلولة
اللامعة" .
ثم " جاء شاب طويل ضخم ، عليه الثياب الكاملة ، وجهه أحمر ، وجه أرستقراطى . أومأ يحيينى ، أومأت أحييه ، وقف بجوارى ينتظر" بهذه التحية بدأ أول فعل تعاطى الحياة .
ثم يدخل فتى أسمر ومعه فتاة لتبدأ ؛ لعبة الحياة في
شكلها المركب المتداخل ، والتى يبتغيها البطل منذ البداية . ذلك الإنسان المثقل
جسديًا بمشاق العمل ، المتخفف روحيًا حد التعبد .. ولو لم يكن متعبدًا فى درجة من
درجات صفاء النفس وشفافية الروح فمن أين له حالة التأمل الرائق ، المقبل على الحياة ، التي ظهرت في وصفه للشاب الأسمر وفتاته بأنهما "يحبان بعضهما ، كل منهما
يحب الآخر"! ونلاحظ أن هذا التكرار يحمل قدرًا أكبر من المعاني ، يبعد عن ما هو متكلف ، وعند
إزالة التكرار يفقد النص بعضًا من رسالته .
يدور الحدث في
محل العصير بين الأربعة زبائن ، في حالة من الصمت المتناغم ، الذي ترسمه أناقة
الوجه الأرستقراطى ، وحالة الحب بين الفتى الأسمر وفتاته السمراء ، و حالة التخفف
الروحي التي يعيشها بطلنا المشتاق . تدور الأكواب من يد إلى يد ، يشربون ، وكأنهم
يشربون نخب الحياة . تضىء الابتسامات أرجاء المكان ، وكأنها وميض سماوي أشرق من
حالة التآلف الإنساني الحميمة؛ ليستدفئ
قلب البطل ، ويهدأ شوقه ، ولتكون كلمه الشكر المتبادل بين الأربعة والتي اختتم
بها الراوى القصة بمثابة الكلمة المفتاح لكل حياة.
2- القيمة و بنية النص
جاءت كل فقرة في القصة
تحمل قيمة وتعززها : فالفقرة الأولى تعزز أهمية العمل . وجاءت الفقرة الثانية تنشد
وتعلى من قيمة الحياة و سيرورتها رغم ثقل العمل ومشقته ، وقد ظهرت هذه السيرورة في كلمات : "محطه" . "المترو" . "سيارته"
. "سائق" . "الميكروباصات" . "تتراص" . "يدور
حولها" . "ينظر اليها" . وجاءت كلمة "قديمة" لتؤكد على أن
تلك الحركة ليست وليدة اللحظة التي انتبه فيها بطلنا لتلك الميكروباصات ، الرابضة
هناك منذ زمن تعمل في دأب ومثابرة لخدمة حركة الحياة .
ورغم الحالة الإنسانية في الحركة التي سادت الفقرة السابقة إلا أن الفقرة التالية ألقت بظلال على فعل الوداع باعتباره ملازمًا لفعل الحياة : وداع لطيف يعقبه لقاء حميم لتستمر الحياة ولتكون ديمومتها التى اختزلها الراوى فى مجموعة من اللقاءات والوداعات . كان هذا كله في جو أمومى دافئ . ثم تأخذنا القصة لحالة من العطاء والأخذ كأبجدية من أبجديات الحياة : "أخذ الفتى الكوب وقد بدا عليه الحرج ، ارتبك ، أخذ الكوب وأعطاه للفتاة التى أخذته فى صمت وهى تبتسم ابتسامة خفيفة . كنت قد رفعت الكوب الثانى ، فأخذه الباشا وقدمه للمحب الأسمر ، فأخذه ، كنت رفعت الكوب الثالث ، أعطيته لصديقى الذى يقف إلى جوارى، أخذه وهو يبتسم ." ، وتوجت الابتسامات هذه الحالة من تعاطى الحياة فجاءت تطل فى جو من الرضا الإنساني حميم .
في الفقره الرابعة
يعدد الكاتب في رمزية بسيطة وعميقة نعم الدنيا : فاكهة ، محل عصير ، فاكهة
معلقة ، الأكواب ، المنصة المبلولة اللامعة ، عصير القصب ، وهل كان الرمز لنعم
الجنة أكثر من شراب وفاكهة : "مُتَّكِئِينَ فِيهَا
يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ"﴿51 ص﴾ . أصبح محل العصير هنا هو المكان الرمز . حيث دخل بطلنا طالبًا الارتواء في الظاهر
وناشدًا عمق الحياة في الباطن.
فى الفقرة الخامسة كان الفتى المنعم ، المتأنق
في ثيابه الكاملة ، ذو الإماءة الرشيقة والرزينة عندما يحيى - شريكًا من شركاء
الحياة ، والذي بدوره يسلمنا لشركاء آخرين ليسوا في مثل أناقته ولا بمثل حجمه الضخم ووجه الأحمر :
فتى أسمر وفتاته السمراء ، نحيلان ، متحابان . وهنا ينعطف الراوى بنا في منحني قوي حيث يذهب
بنا في حالة من التأمل النابض بالحياة ، الذي يستشعر حالة الحب التي تغمر قلبي
الفتى والفتاة ، ومع ذلك يقول إنه ليس : "ذكيًا بما يكفي لمعرفه تلك الأمور"
. وأظن أن هذه حالة من يعيش الحياة ، يتأملها
، ولا يكترث كثيرًا بتوصيفها ، يكفيه أن يكون إنسانًا حساسًا لكي يلمح مشاعر الحب
. وبهذا عززت الفقرة قيمة الحب كأساس من أسس الشراكة في الحياة.
الفقرة الثامنة
والأخيرة تعزز قيمه التآخي وتبادل فعل الحياة ، حيث إنه لا تكون الحياه إلا
بالعطاء المتبادل .
بدأت حركة أكواب
العصير في مسار مستقيم : البطل هو نقطة البداية ، والفتاة هي نقطة النهاية . وهي
العنصر الإنساني الأضعف ، وبهذا يكون البطل هو النقطة الإنسانية الأقوى في حاله
التبادل هذه .
وكما كانت الحركة
في النص كله مستقيمة وانسيابية كانت أفكار ومشاعر الراوى منسجمة مع لغته : مما جعلنا
نستشعر صوت الأفكار كخلفية موسيقية متناغمة .
أشكرك يا دكتورة هند على هذه الدراسة الرائعة .. وأتمنى أن تكون باكورة أعمال أخرى أسعد بها كما سعدت بهذه الدراسة .
ردحذفالشكر لك أنت يا فنان .. اللى ديما بتمتعنا بكتابة راقية .. دمت مبدعًا
حذف